Thursday, July 6, 2017

إبداع من وحي السرطان..نساء يحولن «الروبابكيا» إلى لوحات فنية



إبداع من وحي السرطان..نساء يحولن «الروبابكيا» إلى لوحات فنية
جمع من النسوة يتنافسن على تفريغ آلامهن في مشغولات يدوية ينسجن منها خيوط أمل يتشبثون بها بالحياة، يقاومن بها نيران الكيماوي التي تسري في أوصالهن، فيحترق يأسهن من المرض وتضيء لهن الحياة، إنهن محاربات السرطان.

يجلس هؤلاء النسوة في حجرة صغيرة داخل الجمعية المصرية لدعم مرضى السرطان، الكائنة بحي العجوزة، وتتوسطهن طاولة ممتلئة بالصوف وخرز الكريستال وأدوات منزلية متهالكة، يصنعن منها لوحات فنية ومشغولات يدوية يفرغن فيها آلام السرطان، فهكذا يحاربن المرض بسلاح «العلاج بالفن».



تتنقل منى سامي بخطوات رشيقة بين المحاربات، أو هكذا يطلقن على أنفسهن، تعلمهن تصميم الديكورات المنزلية، فكانت قبل 10 سنوات مريضة مثلهن بسرطان الثدي، الذي يصيب 34 % من النساء بمعدل 35.8 حالة لكل 100 ألف من السيدات، وفقًا لإحصائيات السجل القومي للسرطان بمصر عام 2015.


ولما بدأ المرض يتلاشى عن جسد "منى" بعد بضعة أعوام من مصارعة الموت، عزمت أن تكرس ما تبقى من عمرها لمحاربة السرطان، ففي سنوات مرضها اعتادت التردد على "الجمعية" لتلقي التأهيل النفسي، وفيها رأت النساء يجلسن في وهن كأن الموت يرفرف فوق رؤوسهن، فجال في خاطرها أن تقاوم يأسهن بـ "العلاج بالفن" .



حدثت منى "الجمعية" بفكرتها التي استوحتها من رسالة ماجستير ابنتها الكبرى خريجة كلية فنون جميلة، فرحبوا بها وجمعوا لها المحاربات، وأعدت لهن ورشة تعليمية للديكورات المنزلية، وراحت تبث في نفوسهن الأمل "مش هنقعد نستنى الموت، احنا فينا ايد ومخ نقدر نبدع وننتج ونحس بقيمتنا".

في ثاني جلسات "الورشة" آتت كل محاربة بما لديها في منزلها من "صواني وأطباق" متهالكة وملابس وأقمشة بالية، صنعن منها مشغولات يدوية ولوحات فنية بعد بضعة أشهر من التعلم، حتى جاء موعد عرض أعمالهن في معرض "منتجات المحاربات" بساقية الصاوي بالزمالك.

في المعرض وقفت كل محاربة تشرح لزبائنها كيف صنعت تلك الروائع من خردوات كان لها أن تلقى في سلة المهملات أو "الروبابكيا"، بينما وقفت "منى" تلتقط الصور التذكارية مع تلاميذاتها فارحة بما علمتهن من إبداع حطمت به يأسهن حتى نجحن في مقاومة المرض.




بجوار "منى" وقفت فاطمة بدوي تلتقط صورة تذكارية وعلى رأسها تاج أبيض مزخرف بالورد صنعته بيديها، فبدت كالعرس في فستان زفافها، ثم جذبت مقعدًا خشبيًا لتجلس عليه وراحت تقلب بين صور محفوظة على هاتفها المحمول حتى استقرت على واحدة التقتطها لها إحدى رفيقاتها.

شردت فاطمة في صورتها تسترجع ذكريات تلك الابتسامة التي كانت تواري خلفها صراخات ألم شديد يسري بين أوصالها، وشارة عصمت بها يدها لتنسج من لونها الوردي حياة جديدة بعدما كانت على شفا الموت.

أغلقت الهاتف وشفتيها تتسع بابتسامة تصحبها تنهيدة طويلة تحمل بين أنفاسها الرضا، تطرد مع زفيرها ذكريات رحلة علاجها القاسية التي بدأت باستئصال ثديها الأيمن وانتهت بسقوط شعرها ووهن جسدها، تحمد الله أنها نجت من بين كثير من رفيقاتها اللاتي وارين الثرى، فهناك 21.6% من النساء يتوفين بسرطان الثدي في مصر بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية لعام2013.

حين علمت فاطمة بضرورة استئصال الورم من ثديها، اجتمعت عليها مشاعر مختلطة بين الهوان والحزن على حالها ورغبة في تحدي المرض، انسالت دموعها رغمًا عنها، ولكن سرعان ما جففتها بيديها، عاقدة العزم على ألا يهزمها المرض وينهش بقية جسدها.

يوم 17 أكتوبر 2010 خضعت لعملية الاستئصال دون خوف أو رهبة، فاقت على جزء مبتور من جسدها، فنظرت لمن حولها في غرفة المستشفى رأتهم جميعًا يبكون رثاء لحالها، كادت تسايرهم البكاء لولا أن ربطت على قلبها، تذكرت وعدها لنفسها "سأكون أقوى".


وكأي معركة يبحث فيها البطل عن أقوى الأسلحة التي تحقق له النصر، راحت تبحث فاطمة، التي تجاوزت الخمسين عامًا، عن أسلحتها فوجدت ضالتها في ضحكتها التي بارزت بها الألم على شدة وجعه، وابنتها الكبرى ذات الـ 36 عامًا التي تعاني إعاقة ذهنية وتخشى أن تتركها وحدها في الدنيا.

استئصال تلك الكتلة كان الأقل وجعًا في رحلة العلاج، الأصعب منه ما عانته في جلسات الكيماوي، فحين يتسلل بين أوردتها تشعر بنيران تآكل جسدها من أعلى رأسها حتى أسفل قدمها، بدى واضحًا على حرق شوه جلد كفها الأيسر لما تسرب إليه جزء منه.

بعد كل جلسة كيماوي، التي تكررها كل 21 يومًا لبضعة أشهر، تقضي ثلاثة أيام أو يزيد في غثيان وقيء بلا طعام أو شراب وآلام شديدة تجعلها تتلوى يمينًا ويسارًا، تتذكر أنها وجدت نفسها كثيرًا أسفل السرير دون أن تشعر من شدة الوجع.

تستعيد فاطمة أول يوم سرى الكيماوي في ذراعها، بكت ليس من شدة الألم ولكن "صعبت عليا نفسي"، ولأنها من البداية كانت في تحدي مع نفسها خاطبتها مجددًا "الاستسلام بيدمر..أنا أقوى"، وتزيد قوتها كلما فقدت أيًا من رفيقاتها اللاتي عجزن عن مقاومة المرض.

بعد أول جلسة للكيماوي علمت أن شعرها سيتساقط حتى "تصلع"، تلك المرحلة التي تخشاها كل سيدة يصيبها السرطان وكأنها تفقد جزءًا من أنوثتها، ولكن فاطمة لم تنتظر حتى ترى شعرها الطويل الناعم ينكمش في بعضه وتتساقط خصلاته واحدة تلو الأخرى، فأقبلت هي على قصه.

راحت تنظر لنفسها في المرآة تداعبها "ما أنا حلوة أهو"، وبعدما انتهت جلسات الكيماوي نبت شعرها ثانية، تتحسس خصلاتها المنسدلة من أسفل حجابها وتقول ضاحكة "طلع أحسن من الأول".

توقفت فاطمة عن ضحكاتها لحظة استرجعت في مخيلتها كم الألم الذي كانت تعانيه وتخفيه بابتسامة عذباء، وتقول "حصلي حرق وتليف في الأوردة، كنت بحس بيه في دماغي وعضمي بس كنت بتحمله".

قبل دخولها جلسة الكيماوي تجتمع مع رفيقاتها تقص كل منهن حكايتها ليتناسين مرارة العلاج، تروي عن إحداهما " ست طبية فرحانة بالمرض.. بتقول جوزي كان مبهدلني ولما تعبت بقى يجبلي الأكل لحد السرير.. ياريت  كان المرض جالي من زمان".

تعالت ضحكات "المحاربات" حتى من يمر عليهن في المستشفى يسبهن ويعنفهون في ضجر "خلو عندكوا دم انتوا في مستشفى في ناس تعبانة"، ولكن عذرا لهم لا يعلمون أنهن أيضا مريضات، وتضيف فاطمة "غصب عننا احنا رايحين نموت يعني لازم ننسى أننا مرضى"، ولما يحين دورها في الجلسة تترك لرفيقاتها ابتسامة يحل محلها صرخات بعد دقائق.  

وظلت فاطمة هكذا حتى انتصرت على عدوها، ترك آثاره على ذراعها الأيمن الذي تحركه بصعوبة، ولكنه أكسبها فنون جديدة في الحياة، زادها قوة في شخصيتها وتعلمت المشغولات اليدوية على يد" منى"  حتى أصبحت ماهرة في تحويل الخردوات إلى لوحات فنية رائعة.


جابت فاطمة بنظرات فخر وتباهي معرض "منتجات المحاربات" تشير بكفها إليه  قائلة "اللي عمل اللوحات دي مرضى، أنا كنت رايحة أبيض ياورد..ودلوقتي بقيت أستاذة ".

تختم حديثها برسالة لمحاربات السرطان "الابتلاء نعمة مرحلة وبتعدي بنصبح أقوى وبنقرب من ربنا أكتر..وهيفضل شعارنا هنحارب الموت بالضحكة".

No comments:

Post a Comment